عبد العزيز كوكاس
“لا تحاول أن تجعل ملابسك أغلى شيء فيك ، حتى لا تجد نفسك يوماً أرخص مما ترتديه” حكمة عربية
من يريد الإصلاح عليه أن يبدأ من نفسه، وتخليق الحياة العامة يبدأ من الأعلى نحو الأسفل .. هل تعتقدون أن ” حبيش ” الذي يبيع الحمص أمام المدارس كل صباح،مي الزاهية المرأة الحرة التي تجوع ولا تأكل بثديها،أو باقي رعاع الشعب ممن يكابدون شح اللقمة وعسر الحال.. سيخشون أن يقال لهم: من أين لكم هذا؟ هل سيخافون يوماً من أن يُسألوا عن التصريح بممتلكاتهم الهزيلة إن وجدت؟
تخليق الحياة العامة مشكل الكبار دائما وليس مشكل الصغار..

منذ 1992 تم إقرار تصريح بالممتلكات ،تمت إعادة التداول فيه على عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي، تصريح خجول لأنه لا يمس الفروع ولا يستدعي محاسبة من أخلَّ بواجب التصريح بالشرف، ولا يفرض مراقبة على من تحمَّلوا مسؤولية تسييرالشأن العام وحوَّلوا مراكز المسؤولية إلى حدائق خلفية لسكنهم الخاص، أو لمن دخلوا أبواب المسؤولية هُزالا وخرجوا منها سماناً مثل القطط الكبيرة.
البعض يعتبر “فرض مراقبة ضرورية على كل من يتولى مناصب مسؤولية تدبير الشأن العام، زرعا لبذور الشك بين الدولة ومواطنيها التي يجب أن تنبني العلاقة بينهما على الثقة، وهذا مجال لسياسة العواطف لا لسياسة العقول، فيما يرى آخرون في فرض المراقبة على صرف المال العام .. قتلا لعناصر المبادرة والمغامرة وإبراز الكفاءات وشدها إلى مناصب المسؤولية بالمغرب، بدل الإغراءات الكبرى التي تقدمها المؤسسات الأجنبية، وهذا فيه تشجيع لهجرة الأدمغة وفيه تنمية لبروز أشكال متطورة من لصوصية المال العام، الدولة بكل مؤسساتها لا تملك اليوم إمكانية مكافحتها..”
صدقوني إنها تبريرات الكبار التي لا تعلَن إلا في المجالس الخاصة، وهم شبه متيقنين من كفاءتها العلمية في مجال الاقتصاد.. بل تتفتق عبقرية بعضهم للذهاب بعيداً إلى حدود القول بأن قانون التصريح بالممتلكات يمكن أن يحُد من الاستثمار الذي يبقى مفتوحاً لروح المغامرة والربح غير المنطقي أحيانا وليس للمال النظيف فحسب..
إذا كانت دولة بكاملها، مثل حالة المغرب، تقترض من مؤسسات أجنبية أو تأخذ إعانات من منظمات دولية لصرفها في مجالات محددة، وتضطر هذه المؤسسات إلى أن تفرض مراقبيها الخاصين لمعرفة الاتجاه الصحيح لصرف تلك الأموال، فإن الأمر يزَكي مصداقيتنا من انعدامها في الخارج، غدا قد تعطينا دولة ما مساعدة في كارثة ما لا قدر الله، حتى ولو أعطتنا كيس طحين، وتفرض مراقبيها لمعرفة ما إذا لم يوجَّه في الاتجاه السليم..
إن الثقة تؤسَّس على بُعدي المراقبة الشفافة والمحاسبة الصارمة، ونعتبر أن مراقبة أوجه صرف المال العام يعود بالخير العميم على الدولة وحتى على الأثرياء الذين بنوا ثرواتهم على أسس مشروعة وبعرق جبينهم، إن الأمر لا يعكس أي بعد أخلاقي أو عاطفي في منظومة الاقتصاد، بل يرتبط أساساً بقيم عقلانية للتدبير السليم لمال الدولة..
إن فعالية خلق تدابير جديدة لتخليق الحياة العامة ومراقبة مجاري صرف المال العام تعتبر خطوة أكبر نحو دمقرطة العلاقات الاقتصادية التي أصبحت مفتاحاً لأي تقدم أو تنمية، بدل العَلف المجاني للقطط السمان التي تحولت إلى لوبيات تهدد استقرار المغرب، سواء من الغضب العارم من طرف كل المسحوقين على هذا العنف الرمزي للثروة اتجاههم، أو بقدرتها على تحصين نفسها والدفاع عن مصالحها حتى حدود الجحيم.